فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في معنى الخلاق:

الخلاق بفتح الخاء الحظ من الخير والنفيس مشتق من الخلاقة وهي الجدارة، يقال خلق بالشيء بضم اللام إذا كان جديرًا به، ولما كان معنى الجدارة مستلزمًا نفاسة ما به الجدارة دل ما اشتق من مرادفها على النفاسة سواء قيد بالمجرور كما هنا أم أطلق كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس هذه من خلاق له» أي من الخير وقول البعيث بن حريث:
ولَسْتُ وإن قُرِّبْتُ يَوْمًا ببائعٍ ** خَلاَقي ولا دِيني ابِتغاءَ التَّحَبُّبِ

اهـ.

.قال ابن عرفة:

قوله تعالى: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ}.
قال ابن عطية: سببها أنهم كانوا في الجاهلية يدعون في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة فنهو عن ذلك.
قال ابن عرفة: فتقدير السَّببية على هذا إما أنهم نهوا عن الاقتصار في الدعاء بمصالح الدنيا فقط وأمروا بالشعور بالآخرة واستحضار وجودها.
قال: ويحتمل تقدير السببية بوجهين آخرين. أحدهما: أن في الآية اللف والنشر مَن {يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدنيا} راجع لقوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} وقوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةَ} راجع إلى قوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}.
قيل لابن عرفة: يعكر عليه قوله: {وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ} يدل على أنه كافر فكيف يذكر الله كذكره أباه؟ فقال: قد تقرر أنّ {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} معتبر بأمرين لأنّ الواو فيه واو الحال فيحتمل أن يراد أنه في نفس الأمر ليس له نصيب في الآخرة، ويحتمل أن يريد من الناس المؤمنين من يطلب أمور الدنيا، ولم يتعلق له بال بطلب الثواب في الآخرة عليه، فقد يعمل العمل الصالح، ويطلب المعونة عليه، ولم يخطر بباله طلب الثواب عليه في الآخرة بوجه أو بطلب الرزق الحلال من نعيم الدنيا ومستلذاتها، ويصرفه في وجهه وهو مع ذلك طائع، ولا يتشوق إلى طلب الآخرة بوجه بل يغفل عن ذلك.
الوجه الثاني في تقرير السببية: أنه لما تقدم الأمر بذكر الله عقبه بهذا تنبيها على أن من الناس من لا يمتثل هذا الأمر ولا يقبله، ومنهم من يمتثله ويعمل بمقتضاه فهو الذي يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} أو يرجع إلى القبول والأجر. وتقرر أن القبول أخص، فمن الناس من يفعل العبادة فلا يجزيه ويخرجه من عهدة التكليف فقط ولا يثاب عليها كمن يصلي رياء ومنهم من يفعلها بالإخلاص ونية فتقبل منه، ويثاب عليها في الدار الآخرة.
قال ابن عرفة: وعادتهم يختلفون في الألف واللام في {الناس} فمنهم من كان يقول إنها للعهد والمراد بها الناس الحجاج ومنهم من جعلها للجنس فعلى أنّها للعهد يكون التقسيم مستوفيا لأن الحجاج لابد أنهم يدعون إما بأمر دنيوي أو بأخروي وعلى أنها للجنس لايكون مستوفيا لأن بعض الناس قد لا يدعون بشيء أصلا لا دنيوي ولا أخروي.
قيل لابن عرفة: وكذلك على أنها للعهد لأن بعض الحجاج يدعو أيضا بأمر الآخرة فقط؟. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:

.الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى في حَقِيقَة الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ:

قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ، وَخُصُوصًا فِي رِسَالَةِ نُزُولِ الْوَافِدِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدَاءِ؛ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتِهَا، وَهِيَ حَقِيقَتُهُ الَّتِي خَفِيَتْ عَلَى النَّاسِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ في المراد بالمناسك:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْمَنَاسِكِ هَاهُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الذَّبْحُ.
الثَّانِي: أَنَّهَا شَعَائِرُ الْحَجِّ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا الرَّمْي أَوْ جَمِيعُ مَعَانِي الْحَجِّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».
وَالْمَعْنَى بِالْآيَةِ كُلِّهَا: إذَا فَعَلْتُمْ مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَاذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى: كَالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: لم أعاد الأمر بالذكر في قوله: {فاذكروا الله}؟

الجواب: أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضًا عليه وإبطالًا لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر، فإنه يجر إلى المراء والجدال، والمقصد أن يكون الحاج منغمسًا في العبادة فعلًا وقولًا واعتقادًا. اهـ.

.سئل أبو يعقوب المكى كيف تذكر الحق كذكر الأب؟

فقال: اعلم أنه إذا ضربك فإنه أدبك لحبه لك، وإذا سلبك فاعلم أنه أعطاك بقربه منك، وليس يسعك سوء الظن به لشفقته عليك. اهـ.

.سؤال: لم ترك المفعول الثاني في {آتنا}؟

الجواب: ترك المفعول الثاني لتنزيل الفعل منزلة ما لا يتعدى إلى المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه أي أعطنا عطاء في الدنيا، أو يقدر المفعول بأنه الإنعام أو الجائزة أو محذوف لقرينة قوله: {حسنة} فيما بعد، أي {آتنا في الدنيا حسنة}. اهـ.

.فائدة لغوية:

المناسك جمع مَنْسَك مشتق من نسك نَسْكًا من باب نصر إذا تعبد وقد تقدم في قوله تعالى: {وأرنا مناسكنا} [البقرة: 128] فهو هنا مصدر ميمي أو هو اسم مكان والأول هو المناسب لقوله: {قضيتم}؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي عبادات مناسككم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (201):

قوله تعالى: {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار (201)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{ومنهم من} يجعل عبادته وحجه وسيلة إلى الرغبة إلى ربه ويذكر الله تعالى كما أمر فهو {يقول ربنا} بإحسانك {آتنا في الدنيا} حالة وعيشة {حسنة} لا توصل بها إلى الآخرة على ما يرضيك. قال الحرالي: وهي الكفاف من المطعم والمشرب والملبس والمأوى والزوجة على ما كانت لا شرف فيها انتهى. {وفي الآخرة حسنة} أي من رحمتك التي تدخلنا بها الجنة. ولما كان الرجاء لا يصلح إلا بالخوف وإعطاء الحسنة لا ينفي المس بالسيئة قال: {وقنا عذاب النار} أي بعفوك ومغفرتك. ولما كان هؤلاء على منهاج الرسل لأنهم عبدوا الله أولًا كما أشار إليه السياق فانكسرت نفوسهم ثم ذكروه على تلك المراتب الثلاث فنارت قلوبهم بتجلي نور جلاله سبحانه وتعالى فتأهلوا بذلك للدعاء فكان دعاؤهم كاملًا، كما فعل الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: {الذي خلقني فهو يهدين} [الشعراء: 78] الآيات حتى قال: {رب هب لي حكمًا وألحقني بالصالحين} [الشعراء: 83] فقدم الذكر على الدعاء وكما هدى إليه آخر آل عمران في قوله: {ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا} [آل عمران: 193] الآيات، فقدموا الطاعة عظم شأنهم بقوله على سبيل الاستئناف جامعًا على معنى من بشارة بكثرة الناجي في هذه الأمة أو يكون الجمع لعظم صفاتهم: {أولئك} أي العالو المراتب العظيمو المطالب {لهم} أي هذا القسم فقط لأن الأول قد أخبر أن الأمر عليه لا له. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار} فالمفسرون ذكروا فيه وجوها أحدها: أن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة، والأمن، والكفاية والولد الصالح، والزوجة الصالحة، والنصرة على الأعداء، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق، وما أشبهه حسنة فقال: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة: 50] وقيل في قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52] أنهما الظفر والنصرة والشهادة، وأما الحسنة في الآخرة فهي الفوز بالثواب، والخلاص من العقاب، وبالجملة فقوله: {رَبَّنَا آتِنَا في الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً} كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة، روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس: ادع لنا، فقال: {اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} قالوا: زدنا فأعادها قالوا زدنا قال ما تريدون؟ قد سألت لكم خير الدنيا والآخرة ولقد صدق أنس فإنه ليس للعبد دار سوى الدنيا والآخرة فإذا سأل حسنة الدنيا وحسنة الآخرة لم يبق شيء سواه وثانيها: أن المراد بالحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة والحسنة في الآخرة اللذة الدائمة والتعظيم والتنعم بذكر الله وبالأنس به وبمحبته وبرؤيته وروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلًا دعا ربه فقال في دعائه: {رَبَّنَا آتِنَا في الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار} فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «ما أعلم أن هذا الرجل سأل الله شيئًا من أمر الدنيا، فقال بعض الصحابة: بلى يا رسول الله إنه قال: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة}» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه يقول: «آتنا في الدنيا عملا صالحًا» وهذا متأكد بقوله تعالى: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] وتلك القرة هي أن يشاهدوا أولادهم وأزواجهم مطيعين مؤمنين مواظبين على العبودية وثالثها: قال قتادة: الحسنة في الدنيا وفي الآخرة طلب العافية في الدارين، وعن الحسن: الحسنة في الدنيا فهم كتاب الله تعالى، وفي الآخرة الجنة، واعلم أن منشأ البحث في الآية أنه لو قيل، آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة لكان ذلك متناولا لكل الحسنات، ولكنه قال: {آتنا في الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً} وهذا نكرة في محل الإثبات فلا يتناول إلا حسنة واحدة، فلذلك اختلف المتقدمون من المفسرين فكل واحد منهم حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة.
فإن قيل: أليس أنه لو قيل: آتنا الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة لكان ذلك متناولًا لكل الأقسام فلم ترك ذلك وذكر على سبيل التنكير؟
قلت: الذي أظنه في هذا الموضع والعلم عند الله أنا بينا فيما تقدم أنه ليس للداعي أن يقول: اللهم أعطني كذا وكذا بل يجب أن يقول: اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي وموافقًا لقضائك وقدرك فأعطني ذلك، فلو قال: اللهم أعطني الحسنة في الدنيا والآخرة لكان ذلك جزما، وقد بينا أنه غير جائز، أما لما ذكر على سبيل التنكير فقال أعطني في الدنيا حسنة كان المراد منه حسنة واحدة وهي الحسنة التي تكون موافقة لقضائه وقدره ورضاه وحكمه وحكمته فكان ذلك أقرب إلى رعاية الأدب والمحافظة على أصول اليقين. اهـ.
قال الإمام: حسنة الدنيا، ثوابك، وقوت من الحلال يكفيك، وزوجة صالحة ترضيك، وعلم إلى الحق يهديك، وعمل صالح ينجيك. وأما حسنة الآخرة فإرضاء الخصومات، وعفو السيئات، وقبول الطاعات والنجاة من الدركات، والفوز بالدرجات. اهـ.